الاشتباك الأميركي الإسرائيلي: نتنياهو يهدد المنطقة
كتب منير الربيع في “المدن”:
قراءات متناقضة يمكن تسجيلها في السلوك الأميركي لحظة قرار مجلس الأمن الدولي الداعي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، طيلة شهر رمضان. لا يمكن لهذا القرار أن يصدر لولا الإحراج الذي أصيبت فيه الإدارة الأميركية على مدى فيتوات متعددة استخدمتها سابقاً، حماية لإسرائيل. جاء امتناع واشنطن عن التصويت لتمرير القرار، لأن إدارة جو بايدن أصبحت محرجة انتخابياً، ودولياً، ويتسع صراعها مع حكومة بنيامين نتنياهو. لكن الأخير يعرف جيداً كيف يبتز واشنطن. فخرج معلناً أنها تراجعت عن مواقفها، فهي كانت قد صوتت مراراً بالفيتو رفضاً لكل القرارات التي تذكر وقف إطلاق النار. بينما صوتت روسيا والصين بفيتو على مقترح أميركي قبل أيام، لأنه لا يذكر عبارة وقف دائم لإطلاق النار.
إسرائيل وحدها
انتهز نتنياهو فرصة المزايدة على الأميركيين، والمراكمة من كيسهم. فهم الذين كانوا قد أطلقوا مواقف علنية منحت كل الغطاء اللازم لتل أبيب وحكومة نتنياهو بشن هذه الحرب الوحشية على غزة. وهم اقترحوا في الأيام الأولى مسألة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء. استغل الجنون الإسرائيلي المواقف الأميركية، وحالة الضعف والإرباك، للمضي في مشروع لطالما حلم به نتنياهو والمحيطون به. فالقرار وعلى الرغم من رمزيته وأهميته إلا أن فيه ثغرات كثيرة، أولها أنه يحصر مسألة وقف إطلاق النار بشهر رمضان. وثانياً أنه مرتبط بإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. وإسرائيل في الأساس كانت تستمر بالتحضير لشن معركة رفح بعد شهر رمضان، وكان نتنياهو قد أعلن قبل حوالى أسبوعين بأن تل أبيب تحتاج لبضعة أسابيع حتى تبدأ المعركة التي ستستغرق ما بين 4 و6 أسابيع لإنهائها. يأتي القرار المعطوف على توتر أميركي إسرائيلي، ليستغله نتنياهو في سبيل الذهاب إلى معركة رفح. وهذه المرة بخلاف مع الأميركيين، علماً أنه كان قد أبلغ وزير الخارجية أنتوني بلينكن بإصرار إسرائيل على اجتياح رفح، ويفضل أن يكون ذلك بدعم أميركي. أما في حال لم يتوفر الدعم فإن إسرائيل مصممة على خوض المعركة وحدها.
مواقف أميركية متناقضة
بامتناع واشنطن عن التصويت بفيتو، وتمرير القرار، وتبرير عدم التصويت لصالحه بأنه لم يلحظ أي ادانة لما قامت به حركة حماس، تظهر مجموعة مواقف أميركية متناقضة. وهي ليست المرة الأولى التي تعتمد واشنطن مثل هذه السياسة، التي تجعل كل طرف يحاول تفسير خطوتها كما يحلو له.
التناقض عزز ما صرحت به الخارجية الأميركية، التي أشارت إلى أن القرار غير ملزم. وكأن في ذلك استرضاء لإسرائيل. لكن الأكيد أن التوتر في العلاقة بين بايدن ونتنياهو يتصاعد. كل واحد منهما يحاول أن يتلاعب في الملعب الداخلي للآخر. فواشنطن تضغط على نتنياهو سواء بمواقف دولية، أو في الداخل من خلال العلاقة مع وزراء في الحكومة يعارضون مواقف رئيس حكومتهم. ورئيس الوزراء الإسرائيلي يستعد لأكبر حفلة ابتزاز للأميركيين على أبواب الانتخابات الرئاسية.
الاشتباك مع الحزب الديمقراطي
هي ليست المرة الأولى التي يتطور فيها الاشتباك بين نتنياهو وإدارة أميركية تابعة للحزب الديمقراطي إلى هذا الحد. فسابقاً عارض نتنياهو الاتفاق النووي بين أميركا وإيران أيام باراك أوباما، وأجرى زيارة شهيرة إلى واشنطن وعقد لقاءات في الكونغرس الأميركي، مطلقاً خطاباً تصعيدياً ضد سياسة أوباما. ويومها حاز على تأييد وتصفيق داخل الكونغرس. حالياً، يتكرر السيناريو مع بايدن، وسط تظاهر الأميركيين بأنهم غير قادرين على فعل شيء مع نتنياهو، إلا في حال اتخذ قرار بوقف توريد الأسلحة. ولكن ذلك سيؤدي إلى زلزال في الولايات المتحدة على أبواب الانتخابات.
خلاصة القرار، أن اسرائيل وقفت وحيدة أمام مجلس الأمن، وأن العلاقة مع الأميركيين تتغير عن ما كان عليه الوضع في بداية عملية طوفان الأقصى. ذلك ينعكس في الصراعات الداخلية الإسرائيلية التي تطوق نتنياهو وحكومته، خصوصاً مع تزايد نشاط زعيم المعارضة يائير لابيد الذي يطالب بإجراء انتخابات مبكرة، أو بالخلاف مع بني غانتس الذي يطالب نتنياهو بزيارة واشنطن شخصياً، أو بالتجاذب الذي تعيشه الحكومة حول قرار التجنيد والذي يؤدي إلى خلافات بين رئيس الحكومة ووزير دفاعه، بالإضافة إلى تحركات أهالي الأسرى لدى حركة حماس.
نتنياهو المحاصر
يجد نتنياهو نفسه محاصراً ومطوقاً من أكثر من جهة، فيما هو يرفض أي دعوات لانتخابات مبكرة ويصر على الاستمرار في حالة الحرب، وخوض المعركة وتوسيعها ربما من رفح إلى جنوب لبنان على غرار ما قاله وزير الدفاع يوآف غالانت خلال زيارته لاميركا. يعرف نتنياهو أن أي خيار بديل عن استمرار الحرب والمعارك، هو ارتفاع اللغة السياسية المعارضة له في اسرائيل، واستقالة الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة، تقول بعض المعلومات إن موعدها قد يكون في شهر حزيران المقبل، اي قبل الانتخابات الأميركية. وهذا ما يسعى نتنياهو إلى منع حصوله.
جملة حالات نفسية يتعايش معها نتنياهو، وهو الذي جاء إلى الحكم في انقلاب اليمين على اتفاق أوسلو، وبنتيجة اغتيال اسحاق رابين. في خلفية رأسه ونوازعه، أنه يربط مصيره بمصير اسرائيل، يخوض معركة وجودية، فيصبح وجوده من وجود دولته، ونهايته من نهايتها. في هذه المعادلة يريد الرجل أن يتفوق على أسلافه. فيريد تجاوز بن غوريون، وشمعون بيريز وشارون وغيرهم. وهو ينزع إلى تكريس حالة متعايشة مع الحرب لفترة طويلة، يكسر من خلالها قواعد أن اسرائيل تضعف أمام الخسائر البشرية. لدى الرجل كثير من جنون العظمة، فربما يتخايل سياقاً للرد على معتقد تاريخي بأن عمر أي دولة يهودية في التاريخ لم يتجاوز 80 عاماً، فيسعى لمضاعفة هذا العمر إنطلاقاً من هذه الحرب، التي تبدأ في غزة ولا أحد يعلم أين تنتهي، خصوصاً في ظل التصعيد مع لبنان، والكلام الكثير في اسرائيل الذي يشير إلى أنه لا يمكن القبول بالواقع القائم في جنوب لبنان. ولا يمكن الخروج من غزة بـ”انتصار” (وهو لم يتحقق حتى الآن)، إلى معادلة الانهزام أمام حزب الله ولبنان.
مثل هذا الجنون والطموحات يمكن لها أن تهدد المنطقة برمتها.