سيناريوهات محتمَلة وأفق مجهول
جاء في “الراي الكويتية”:
لم يعُد هناك أدنى شك في أن إيران قرّرت توجيه ضربةٍ بنفسها – وليس عبر حلفائها – لإسرائيل على خلفية قصْف وتدمير مبنى القنصلية في دمشق، والذي يُعتبر وفق اتفاقية فيينا عام 1961 منطقةً دبلوماسية مَحمية لا يُمكن المساس بها.
ويبقى السؤال عن توقيت الضربة – التي أبلغت إيران إلى الولايات المتحدة أنها «آتية»، وذلك عبر السفارة السويسرية في طهران التي ترعى المصالح الأميركية، والتي تلقّت من واشنطن رداً بأنها ستبقى على الحياد ما دامت قواعدها وقواتها لن تتعرّض لأي هجوم – وأين يمكن أن تقع، وماذا سينتج عنها، خصوصاً أن إسرائيل تتحضر للردّ على الردّ إذا كانت الأضرار البشرية التي ستنجم عن الضربة الإيرانية لا يمكن تَجَرُّعها بصمت.
يُعتبر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أذكى السياسيين الإسرائيليين في عصره الحالي حيث لا يوجد مُنازِع لسلطته، وليس هناك حالياً قائد سياسي آخر كاريزماتي ويتمتّع بدعم سياسي كافٍ ليهدّد مكانته. ولهذا تَحالَفَ مع الأحزاب المتطرفة ليحصل على كرسي رئاسة الوزراء الذي جلس عليه لأكثر من 16 عاماً غير متتالية.
ومن المعروف عنه أنه لا يحبذ الحروب الطويلة لأنها تُسْقِط رؤساء الحكومة وتجذب خسائر اقتصادية وأمنية هو بغنى عنها وتُخَلْخِلُ عرشَه. إلا أن السابع من تشرين الأول، فرض عليه بالقوة تغيير مبادئه، فاعتقد أن جيشه يتمتع بالقدرة الكافية للانتصار السريع.
وقد اعتمد على الدعم اللامحدود الذي حصل عليه في الأسبوع الأول الذي تلى «طوفان الأقصى» من رؤساء العالم، وعلى رأسهم الأميركي جو بايدن، والأوروبيون وغيرهم من المجتمع الغربي. وهذا ما كان من شأنه أن يُطْلِقَ يدَه لقتل الفلسطينيين من دون محاسبة، ليجاهر ووزراؤه بما سيفعلونه (وفعلوه) من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تتحدى كل القوانين الدولية، معتبرين أن إسرائيل تخوض حربَها ضد «من يجب قتْل نسائهم وأطفالهم وجميع الرجال القادرين على حمْل السلاح».
لكن الحرب طالت من دون أن يُحقق نتنياهو أي مكسب إستراتيجي من الأهداف التي أعلن عنها منذ بداية الحرب، فلم يستطع السيطرة على أي بقعة في قطاع غزة بعد ستة أشهر من القتال. إذ نجحت المقاومة في إعادة تنظيم صفوفها واستبدال وحداتها القتالية في الشمال والوسط والجنوب لتشغل جيش الاحتلال وتمنعه من البقاء بأمان في أي بقعة داخل المدن ومنعتْه من تحرير الأسرى الإسرائيليين الـ 136.
وهذا ما رفع مستوى الضغط الشعبي على نتنياهو الذي تحاصره مطالباتٌ بالعمل على وقف إطلاق النار للتوصل عبر المفاوضات إلى تحرير وتِبادُل الأسرى. إلا انه رفض وراوَغَ ولم يعط الوفد الإسرائيلي صلاحيات المفاوضة لأنه اعتقد أن أي وقف للأعمال الحربية لمدة 42 يوماً لثلاث مرات (126 يوماً)، بحسب ما سُرّب عن المفاوضات، سيفرض نفسه ليوقف الحرب نهائياً.
وهذا ما يخشاه نتنياهو لأنه، إذا توقفت الحرب، سيواجه قفص الاتهام لفشله في تأمين الحماية للإسرائيليين يوم السابع من تشرين الأول، ما سيعرضه للاستقالة ولسقوط حكومته ومواجهة المحاكمة باتهامات الفساد الثلاثة التي تنتظره.
لهذه الأسباب ولفشله في تحقيق «النصر المطلَق» الذي وَعَدَ إسرائيل به، ولعدم رغبته بتوسيع الجبهة ضد «حزب الله» في لبنان لتفادي تَراكُم خسائره البشرية والاقتصادية، فقد لجأ لضرْب أهداف في سوريا مرات عدة، كونها الخاصرة الرخوة في هذه الحرب التي يرفض الرئيس بشار الأسد المشاركة فيها عبر حدوده وأرضه دعماً لحركة «حماس».
وقد اغتال نتنياهو أخيراً، أحد أهم الجنرالات الإيرانيين، الجنرال رضي موسوي داخل مزرعته خارج دمشق. إلا ان اغتيال اللواء محمد رضا زاهدي (اسمه الحركي أبومهدي أو مهدوي)، عضو شورى «حزب الله» وقائد الحرس الثوري في سوريا ولبنان، لم يكن ليتسبّب برد فعل إيراني مباشر لو لم يحصل الاغتيال في موقعٍ ديبلوماسي رسمي. وهذا ما يعطي إيران الحق القانوني لردّ لا بد منه كي لا تتمادى إسرائيل بضربات أخرى أكثر جرأة.
أما بالنسبة لنتنياهو، فهو في موقع اليائس: هناك خلافات داخل حكومته المصغّرة، ويتعرض منزلُه ومحيط مبنى الحكومة وكذلك الكنيست لتظاهراتٍ بدأت تتخذ حجماً أكبر من المعتاد من متظاهرين يريدون من الحكومة المضيّ بالمفاوضات مع «حماس» وإطلاق سراح أفراد عائلاتهم.
إضافة إلى ذلك، خرج الوزير بيني غانتس – الذي يتمتع اليوم بأكبر عدد من الأصوات داخل الكنيست يصل إلى 35 صوتاً – ليعلن ضرورة إجراء انتخابات مبكرة، وهذا ما يرفضه نتنياهو بتاتاً.
وتالياً، بالإضافة إلى غضب أميركا من مماطلته وتجويعه لقطاع غزة وسكانه ونشْر عناصر جيشه صورهم خلال ارتكابهم جرائم حرب، وحركة الوعي الجَماعية لشعوب العالم الضاغطة على حكّامهم والتي رجّحت الكفّة نحو دعم فلسطين والتنديد بإسرائيل، اعتقد نتنياهو أن أفضل الحلول المتبقية تقتضي الهروب إلى الأمام بضرْب الموقع الدبلوماسي، ظناً منه أن طهران لن تردّ عليه، فإذا لم تردّ عليه بالمباشر، سيذهب لضرب أهداف أكبر لفقدان توازن الردع، ويقدّم نفسه كقائد قوي أمام مجتمعه مستعدّ للمخاطرة ومواجهة إيران في عقر دارها.
السيناريوهات
إذاً، ما السيناريوهات المتوقعة؟ إذا ردّت إيران ضد أهداف عسكرية مهمة (وهناك المئات منها في بنك الأهداف) وتسبّبت بخسائر بشرية كبيرة، فإن إسرائيل ستردّ عليها. وهذا ما من شأنه أن يدفع طهران للرد الأقوى الذي من المحتمل أن يشعل الحرب ويفرض التدخل الأميركي لإنهائها قبل توسّعها، وهذا ما يناسب نتنياهو.
ولكن إيران في حالة الحرب والردّ على الردّ لن تكون لوحدها ابداً، بل سيدخل «حزب الله» و«المقاومة العراقية» وحوثيو اليمن مباشرةً في الصراع. وفي حال حدوث ذلك، فإن أميركا لا تستطيع البقاء على الحياد ولن تدخل حرباً لا أفق لنهايتها في ظل انتخابات رئاسية. بل ستلجأ لتمدّ السلّم لنتنياهو لينزل عن الشجرة ويُظْهِرَ نفسه أمام حلفائه المتطرفين ومجتمعه بأنه مستعد للحرب مع طهران ولكن واشنطن أوقفتْه. فقد خبرت أميركا الحرب على الحوثيين، وعجزتْ فيها عن فرض الردع وتأمين الملاحة في البحر الأحمر.
أما إيران التي تدرس تاريخَ الضربة ومكانها، متردّدة في ظلّ احتمال التوصل لوقفٍ لإطلاق النار في غزة، وفق ما ادعت أميركا أنها ستفرضه على إسرائيل خلال المحادثة بين نتنياهو وبايدن. وتالياً، فإن الضربة الإيرانية قبل الاتفاق من الممكن أن تجمّده، وتمنع عن الفلسطينيين مرحلة استراحة لتتوجه أنظار العالم إلى الحرب الجديدة.
الأفكار الأخرى المتداوَلة، هي أن الضربة قبل الاتفاق من المحتمل أن تعجّل فيه وتعطي دَفْعاً أقوى للمفاوضات لجهة ضرورة إنهاء أزمةٍ قبل التوجّه نحو أخرى. وهناك آخَرون في إيران يعتقدون أن الضربة بعد اتفاق وقف النار، تعطي طهران القوة الشعبية بأنها أزاحت الضغطَ عن غزة التي ستعيش فترة هدوء لتبدأ حرب جديدة تواجه فيها، إسرائيل مباشرة، للمرة الأولى منذ انتصار الثورة الإسلامية.
وماذا لو لم يحصل اتفاق وقف النار وتَأَجَّلَ بسبب مراوغة نتنياهو كما هو الحال في الأشهر الماضية؟ هذا أيضاً احتمالٌ يُدرس بين القادة الإيرانيين الذين يؤكدون أن الضربة لا بد من توجيهها في الأراضي التي تحتلّها إسرائيل، من الجولان السوري إلى مزارع شبعا وكفرشوبا أو المواقع العسكرية في مدن عسقلان أو حيفا، خصوصاً تلك التي انطلقت منها مقاتلات «إف – 35» التي شاركت في قصف القنصلية الإيرانية.
كل هذه السيناريوهات تشتمل على احتمال وقوع خسائر بشرية في صفوف الإسرائيليين العسكريين أو المدنيين إذا وُجدوا في المنطقة العسكرية المستهدَفة. لكن الأهمّ من ذلك هو موقف إسرائيل بعد الضربة الإيرانية الواقعة لا محالة: هل تردّ على الردّ؟
إذا حصل ذلك، فإن طهران تملك بنك أهداف واسعاً واستعدّت لضربة أكبر بكثير من الأولى لتتلقّفها وتعيد مثْلها إلى إسرائيل. وقد ظهرت الاستعداداتُ في إسرائيل لحربٍ، بدءاً من التشويش الإلكتروني لحرْف الصواريخ الموجَّهة وإبلاغ الجبهة الداخلية بالاستعداد والإبقاء على طائرات دائمة لتقدّم التعبئة للطائرات الاستراتيجية خلال رحلة الذهاب والإياب بين إسرائيل وإيران.
في المقابل وضعت طهران وحداتها الصاروخية الهجومية والدفاعية في حال تأهب. ومن هنا، فإن الكرة أصبحت في ملعب تل أبيب التي بدأت بالمعركة ولن تكون لها اليد العليا في إنهائها كما تتمنى وترغب، خصوصاً أن الأفق مجهول لكل الأطراف المعنية.