سياسة

عملية كييف “الانتحارية” داخل الأراضي الروسية

نبيل الجبيلي نقلاً عن “عربي21”

بعد أشهر من التراجع على الجبهة الشرقية، أطلقت أوكرانيا عملية واسعة النطاق وغير مسبوقة، وذلك 6 آب/ أغسطس في منطقة كورسك الحدودية، سمحت بتوغل القوات الأوكرانية بعمق 15 كيلومترا والسيطرة على مواقع عدّة، قالت كييف؛ إنّ بينها 74 بلدة روسية.

تلك العملية توضع في إطار “الانتحار الأوكراني”، ولو من أجل ساعات أو أيام من “نصر مزيّف” تطمح كييف لأن يسعفها في مفاوضاتها المرتقبة، بعد أن ضاق العالم ذرعا من هذا النزاع والإخفاقات الأوكرانية على جبهة دومباس، برغم الوعود التي قطعها الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي للدول الغربية بتحقيق نصر غير مسبوق ضمن ما سُمّي في حينه “الهجوم المضاد”.

إلا أنّ ذاك النصر لم يتحقق، وهو ما أدى إلى ظهور حال تململ لدى الدول الغربية اللاهثة خلف هزيمة روسيا، على الرغم من حاجتها إلى موسكو باعتبارها مصدرا رخيصا للنفط والغاز، وهذا بدوره ما رسم المزيد من علامات الاستفهام حول تلك العملية الأوكرانية “المجنونة” في كورسك، التي تحوي منشآت نفطية وغازية، ما زالت تمدّ القارة العجوز بتلك المواد الحيوية إلى اليوم.

فهل العملية كانت من أجل تحسين موقع كييف التفاوضي؟ أم محاولة للضغط على الدول الأوروبية لعدم التخلي عن زيلينسكي، الذي اتخذ القرار بتلك الهجمات شخصيا بحسب ما نقلت وسائل إعلام أوكرانية؟ أم هي العملية الأخيرة قبل “الموت السريري” الذي ينتظر أوكرانيا، نتيجة دخول الولايات المتحدة بـ”كوما” الانتخابات الرئاسية؟

بدأ الهجوم باقتحام القوات الأوكرانية المناطق الروسية في 6 آب/ أغسطس، بقوة مؤلفة من 6 إلى 10 آلاف مقاتل مدججين بأحدث العتاد الغربي، ومطعمين بالمرتزقة الغربيين أيضا. فكان هجوما مضادا “مصغّرا” لم يُعلن عنه أو يُخض في تفاصيله، ولعل هذا ما ساهم في إنجاحه، حيث دخلت الحشود العسكرية الأوكرانية عبر النقاط الحدودية، مباغتة الجنود الروس ذوي الأعداد المحدودة هناك، وغير المجهزة نتيجة “الاتفاق الضمني”، و”غير المعلن” حول تحييد تلك المناطق.

ولهذا كان التقدم سهلا وسريعا، فاستطاع المهاجمون الأوكران التوغل في العمق الروسي لمسافات تجاوزت 15 كيلومترا، جاعلين الوضع في كورسك “صعبا” بحسب ما صرّح حاكمها، وهو ما اضطر إلى هرب السكان الروس بالآلاف.

عشرات الكيلومترات والبلدات

وزارة الدفاع الروسية لم تتنكّر للهجوم واعترفت به، لكنّها أكدت في المقابل أنّ دباباتها “وصلت واتخذت مواقع إطلاق النار” ضد القوات الأوكرانية، وأجبرتها على التوقّف بعد تصدّ شرس استنفر الأجهزة الأمنية كلها في البلاد. كما أكدت الوزارة أنّ معارك ضارية تتركز في مالايا لوكنيا وأولجوفكا وإيفاشكوفسكوي، وهي تجمعات سكنية تقع على بعد يتراوح بين 10 كيلومترات و20 كيلومترا داخل روسيا لناحية الحدود الأوكرانية.

وهي المرة الأولى التي تشهد فيها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية توغلا أجنبيا في أراضيها، اعتبرته موسكو إرهابا، إذ أعلنت أجهزة الأمن الروسية عن فرض نظام “مكافحة ‎الإرهاب” في كورسك ومنطقتي بيلجورود وبريانسك الحدوديتين المجاورتين، وهو يسمح بفرض قيود على الحركة. وقالت اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب؛ إنّ ذلك كان ردا على “المحاولة غير المسبوقة لأوكرانيا لزعزعة استقرار الوضع” في البلاد.

زيلنسكي سعيد بالإنجاز

وأقر الرئيس الأوكراني بأن قواته تقاتل داخل الأراضي الروسية للمرة الأولى، وذلك في هجوم سمّته كييف “استعادة العدالة” بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا 2022.

‎ولم يعلن زيلينسكي عن أهداف تلك العملية، لكن يبدو أنّ مراميه من خلفها أكبر من مجرّد غزو أراض روسية، قد لا يقدم ولا يؤخر في سير المعارك بإقليم دومباس الضائع. فمدينة سودجا الروسية في كورسك، تقع بالقرب من محطة غاز روسية على الحدود مباشرة، إذ تعد آخر نقطة شحن تعمل حاليا لنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا، حيث الترتيبات المتعلقة بنقل الغاز ستنتهي في شهر كانون الثاني/ يناير المقبل، وربما تكون هذه محاولة من قبل كييف من أجل وقف تمويل آلة الحرب الروسية من قبل شركائها الأوروبيين؛ أيّ عملية من “يطلق الرصاص في قدمه”.

الغوص في المزيد من التفاصيل يقود للاستنتاج بأنّ موسكو لو قُدّر أن تفشل في وقف التقدم الأوكراني، لاستطاعت قوات كييف السيطرة على محطة كورسك للطاقة النووية، ومن ثم إظهار زيلينسكي بموقع “الرجل القوي”، الذي اجتاح الأراضي الروسية، ونقل المعركة إلى عقر دارها، وهذا ما قد يعطيه حتما “دفعة تفاوضية”، هو بأشدّ الحاجة إليها بعد سلسلة الهزائم التي مُني بها على الجبهات كافة.

الغرب ينكث بتعهداته؟

تبعات تلك العملية أثار استغراب ودهشة الروس، فعلّق نائب مجلس الدوما من منطقة كورسك نيكولاي إيفانوف حول نقص عدد القوات الروسية على الحدود؛ بالقول إنه سمع شخصيا بشكاوى من الجنود على حدود كورسك حول نقص الأسلحة، وضعف الجبهة هناك خلال زياراته المعتادة إلى القوات على الحدود.

لكنّ مصادر عسكرية روسية أكدت أنّ هذا الجانب من الحدود “لم يكن جبهة قتال أصلا، ومن ثم لم تكن هناك دواع لتحصينها”، خصوصا أن تلك المنطقة كانت “تضخ الغاز للقارة الأوروبية ولم نتوقع الغدر من هناك. كان الوضع هادئا لنحو سنتين وكنا على علم بأنّ أوكرانيا حشدت بعض قواتها هناك، ولكن لم نتوقع الهجوم”.

ولم يُعرف إن كانت القيادة الروسية قد حصلت على “ضمانات غربية” بعدم فتح تلك الجبهة في ما مضى، لكن الردّ الروسي المباشر على العملية بقصف العاصمة كييف “المحيّدة” عن القتال منذ أشهر طويلة، يشير إلى وجود اتفاق من هذا النوع.

“قوات أحمد” تدعو إلى الهدوء

واستعان الجيش الروسي بقوات “أخمت” (أحمد) الشيشانية الخاصة من أجل وقف الهجوم الأوكراني سريعا، ووعد الرئيس الشيشاني رمضان قديروف بإعادة المعتدين ودحرهم إذا تبقّى منهم أحد.

وقال قائد القوات علاء الدينوف في قناته في “إنستغرام”؛ إنّ الوضع في منطقة كورسك ككل ليس حرجا، “لم يحدث شيء خارق للطبيعة. دخل العدو، وسيطر على هذه المناطق؛ لأنّ الخط الدفاعي الوحيد هناك هو الحدود”. كما أكد أنه “بمجرد تدمير المعدات الأوكرانية لن يكون لدى الجنود والمرتزقة أي شيء للوقوف في وجهنا”، مطالبا المنتقدين عبر مقطع فيديو نشره على “إنستغرام” بأن يشتروا الفوشار، والتمتع بما ستؤول إليه المعركة في الأيام القليلة المقبلة.

بوتين يتوعد برد قاسي

وخلال اجتماع عقده الاثنين، بحضور كبار المسؤولين الحكوميين والعسكريين والأمنيين بالإضافة إلى قادة المناطق الحدودية مع أوكرانيا لبحث الوضع في كورسك، أشار بوتين إلى أن كييف تنفذ رغبة أسيادها الغربيين الذين يقاتلون روسيا بأيدي الأوكرانيين، بالرغم من وصف الصحافة العالمية لزيلينسكي بالمنتحر والمخاطر، حسب وول ستريت جورنال التي قالت نقلا عن مصادر في البيت الأبيض؛ إن المسؤولين الأمريكيين يخشون من قيام روسيا بضربة واسعة النطاق على البنية التحتية الحيوية بأوكرانيا؛ ردا على عملية كييف “المحفوفة بالمخاطر”، مما يؤكد بأن فتح جبهات جديدة كانت ممنوعة على كييف، وبأن موسكو كانت تلتزم بعدم التصعيد وفتح جبهات جديدة.

وطلب الرئيس الروسي من الأجهزة الروسية ضبط الحدود وضمان عدم تكرار مثل هذه الأحداث، وكذلك التأكد من طرد المعتدين، متهما كييف بعدم الصدقية ولا تستأهل مشاركة روسيا مفاوضات سلام، متوعدا برد قاسٍ على تهورها.

التاريخ يعيد نفسه

وفي سنة 1943، شهد إقليم كورسك أكبر معركة دبابات عرفها التاريخ، حيث حشدت ألمانيا أكثر من نصف مليون جندي و10 آلاف مدفع و2700 دبابة و2500 طائرة. كما حشد القوات السوفييتية 1.3 مليون جندي و20 ألف مدفع و3600 دبابة و2650 طائرة.

‎ورفض هتلر دعوات المسؤولين العسكريين الألمان إلى التخلي عن مهاجمة كورسك، وخسر المعركة برغم الخسائر الكبيرة في الأرواح، حيث لقي 200 ألف جنديّ ألمانيّ حتفهم، بينما ارتفعت الخسائر السوفييتية لما يزيد عن 800 ألف عسكري. ومثّل هجوم كورسك آخر عملية هجومية كبرى شنتها ألمانيا على الجبهة الشرقية.

وطيلة ما تبقى من الحرب، اعتمد الألمان وضعية دفاعية أمام زحف قوات الجيش الأحمر، مما جعل بعض وسائل إعلام الألمانية تتذكر هذه المعركة في صحفها مستخدمة شعارات مثل “الدبابات الألمانية تعود إلى كورسك”، تذكيرا بمعركة كانت تُعد “أم المعارك”، دون ذكر هزيمة النازيين على يد الجيش الأحمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى