لهذه الأسباب يتخبّط ماكرون في الحرب الأوكرانية
عماد الشدياق نقلاً عن “القدس العربي”
عقب فوزه بولاية خامسة ستُبقيه رئيساً لأكبر دولة نووية في العالم حتى العام 2030، ردّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على دعوات نظيره الفرنسي إمانويل ماكرون من دون أن يسمّيه، قائلاً إنّ نشر قوات غربية في أوكرانيا “قد يقود العالم إلى شفا حرب عالمية ثالثة”.
إذاً، يصرّ الرئيس الفرنسي الشاب على الذهاب بعيداً في الخلاف مع روسيا: ففي المرة الأولى ألمح إلى احتمال إرسال جيوش غربية – فرنسية تحديداً- إلى أوكرانيا للوقوف في وجه الجيش الروسي. ثم في المرة الثانية تمنّى ألاّ يفوز بوتين بالحرب ضد أوكرانيا. أمّا في المرة الثالثة، فدعا ماكرون نظراءه الأوروبيين عقب عودته من زيارة قادته إلى برلين، لعدم الاستسلام، ملمحاً مرة إضافية إلى “عدم استبعاد” إرسال قوات أوروبية إلى الأراضي الأوكرانية.
تخبّط أو تناقض؟
ويبدو ماكرون متخبطاً في هذا الطرح، لأنّه يقول منذ مدّة الشيء ونقيضه في الوقت ذاته: فهو من جهة يُلمح إلى مشاركة قوات أوروبية، وربما فرنسية، في الحرب، لكنّه من جهة أخرى يعتبر أنّ الدعم المُقدّم لأوكرانيا “لا يجعل من الدول الغربية أطرافاً مشاركة مباشرة في الحرب”.
كما أنّ الرئيس الفرنسي يتحدّث عكس ما يصرّح به وزراؤه الفرنسيون، خصوصاً وزيري الخارجية ستيفان سيغورنيه والدفاع سيباستيان لوكورنو. وفيما يؤكد ماكرون على “حتمية تنفيذ عمليات على الأرض، أياً يكن شكلها” يحرص الوزيران على طمأنة الرأي العام الفرنسي والأوروبي عموماً، من خلال التأكيد على أنّ نشر قوات أرضية في أوكرانيا لا يعني نشر قوات قتالية، بل قوات تقوم بأعمال لوجستية مثل إزالة الألغام والاستشارات والتدريب!.
وبرغم هذا التخبّط، فقد أكد المكتب الصحافي لجهاز المخابرات الروسية الخارجية (FSB) في تقرير قبل أيام، أنّ باريس لم تشهد خسائر عسكرية كما هو الحال الآن في أوكرانيا، وذلك منذ الحرب الجزائرية.
وقال التقرير الاستخباراتي الروسي إنّ الجيش الفرنسي “يشعر بقلق ملحوظ إزاء العدد المتزايد من الفرنسيين الذين قتلوا في مسرح العمليات الأوكراني”. كما أشار إلى أنّ موسكو تملك معلومات تفيد أنّ باريس تقوم بإعداد وحدة عسكرية يصل عددها إلى نحو 2000 شخص من أجل إرسالها إلى أوكرانيا.
ونقلت وسائل إعلام روسية عن مسؤولين روس، أنّ هذه القوات قد ترسلها باريس إلى مدينة أوديسا جنوب غرب أوكرانيا المطلة على البحر الأسود، لكنّها ستصبح “هدفاً أولوياً للجيش الروسي فور وصولها”، وأنّها “ستواجه مصير جميع الفرنسيين الذين جاءوا إلى أراضي العالم الروسي”.
التأكيد والتلميح، ثم النفي يقابله سيناريوهات بدأت وسائل إعلام فرنسية بالحديث عنها رسمياً وتفيد بإرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا. سيناريوهات ناقشتها برنامج حوارية في باريس طارحة خريطة نشر وحدات الجيش الفرنسي المفترض في أوكرانيا، وذلك وفق سيناريوهين:
– الأول، هو تركيز القوات الفرنسية على طول نهر دنيبر.
– الثاني، هو نشر القوات الفرنسية على الحدود مع جمهورية بيلاروس.
رفض داخلي وخارجي
هذه التصريحات لم تَرُق للأحزاب الفرنسية ولا حتى للفرنسيين، إذ تُظهر استطلاعات الرأي الفرنسية أنّ أكثرية الفرنسيين يرفضون الموت من أجل أوكرانيا، في حين أنّ شركاء باريس الأكثر حماسة لدعم أوكرانيا (بريطانيا مثلاً) يبدو أنهم غير متحمسين لهذه الخطوة، ويعتبرونها تهوراً… وربّما انتحار.
فماكرون لم يتحدث مباشرة عن إرسال قوات من حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، لكن بمجرد نشر قوات غربية في أوكرانيا، ستنظر موسكو إليها على أنّها “قوات أطلسية”… وهذا سيغير الوضع ميدانياً مهما كانت تبريراته وحُججه.
وفي هذا الصدد، كان لافتاً الرفض الغربي لهذا الطرح الفرنسي الهجين. فبينما كانت لندن “رأس حربة” في دعم أوكرانيا على مدى السنتين الماضيتين و”ماكينة” لا تهدأ في حضّ الدول الأوربية ضد روسيا، إلاّ أنّها لم تستطع السير بالمقترح الفرنسي، فكانت من بين العواصم الغربية التي سارعت إلى رفض دعوة ماكرون.
فقد أكد وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون معارضة بلاده إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا، بما في ذلك لأغراض تدريبية. وقال الوزير البريطاني إنّ مهمات التدريب “تُنفّذ بشكل أفضل خارج أوكرانيا”، وذلك خوفاً من تحوّل القوات الأوروبية إلى “أهداف واضحة” للجيش الروسي، من دون أن تنفي لندن وجود عناصر بريطانية في أوكرانيا حالياً.
حتى أوكرانيا لم يَرُق لها “الطرح الماكروني”، إذ قال وزير الخارجية الأوكراني دميتري كوليبا إنّ ماكرون كان يعني بتصريحاته إرسال مدرّبين، وليس قوات من أجل القتال.
وأكد كوليبا في الوقت نفسه أنّ بلاده لم تتقدّم بأيّ طلب لإرسال جنود إلى أوكرانيا، التي تحتاج حالياً إلى الذخيرة والمسيرات والصواريخ، وليس إلى جنود… وهذا ما ذهب إليه حلف شمالي الأطلسي (الناتو) الذي رفض دعوة الرئيس الفرنسي، فأعلن أمينه العام ينس ستولتنبرغ، أنّه لا يؤيد تصريحات ماكرون.
ماذا يريد ماكرون؟
أمّا تصعيد ماكرون في وجه موسكو اليوم، فيأتي نتيجةً أسباب عدّة هي أبعد من أوكرانيا والحرب الدائرة على أراضيها على ما يبدو، إذ يمكن اختزالها بالتالي:
1- لأنّ الدعم الغربي لكييف، بالمال والسلاح على مدى السنتين المنصرمتين، لم يأتِ بأيّ نتيجة. لم يستطع الجيش الأوكراني ولا ميليشياته والمرتزقة الغربيون المشاركون معه في الحرب، صدّ الهجمات الروسية، ولا حتى اختراق دفاعاتها في الهجوم المضاد الذي قادته كييف بدعم غربي، مطلع الصيف الفائت.
2- لأنّ الانتخابات الرئاسية الأمريكية باتت على الأبواب وتُنبئ بفوز “غريم” القارة الأوروبية الرئيس السابق دونالد ترامب. فوز ترامب سيحلّ كارثة على الأوروبيين، لأنّ ترامب قد يوقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا بينما سيترك الأوروبيين في مواجهة روسيا منفردين، ناهيك عن احتمال تفكّك حلف “الناتو”، الذي يربط ترامب بقاءَ بلاده فيه بمشاركة أوروبية في حصص أكبر ضمن آلية دعم الحلف مالياً… وهو ما تتخوّف منه اليوم القارة الأوروبية، ويُعبّر عنه ماكرون علناً بطريقة أو بأخرى.
3- لأنّ ماكرون يطمح إلى الاستثمار في “الغياب الأمريكي” من اليوم حتى نهاية العام، وذلك بسبب الانتخابات الرئاسية نفسها، وكذلك لأنّه لا يرتاح إلى ما يعتبره “الحرص الألماني” في التعاطي مع موسكو، على الرغم من أنّ دعم برلين المالي والعسكري لأوكرانيا يزيد بأضعاف على ما قدمته فرنسا إلى الآن.
4- لأنّ باريس تلقّت أكثر من ضربة خلال السنتين الماضيتين على يد موسكو، التي وقفت إلى جانب العديد من الدول الأفريقية وساعدتها في مجالات عدّة، من بينها التسلّح والمساعدات الغذائية والدعم الدبلوماسي. هذا الدعم تنظر إليه باريس على أنّه موجه ضدّها، ولأنّه قاد إلى إجبار فرنسا على الانسحاب من دول في القارة السمراء.
5- لأنّ ارتفاع عدد قتلى المرتزقة الفرنسيين على الأراضي الأوكرانية بدأت أخباره تتوسع حول العالم، وكذلك في الداخل الفرنسي، وهذا ربّما ما يدفع ماكرون ومن خلفه الجيش الفرنسي، إلى الإعلان عن تلك الخطوة حتى لو لم تحصل، وذلك حتى تكون غطاءً أو مبرّراً مستقبلياً لعدد القتلى المتزايد بشكل مضطرد.
لكلّ هذا، يريد ماكرون أن يطلّ على الرأي العام الفرنسي والعالمي بوضعه الزعيم الغربي الأكثر التزاماً بدعم أوكرانيا اليوم… حتى لو كان ذلك ضدّ رغبة الرأي العام في بلاده وضد تطلعات الأحزاب الفرنسية، وعلى حساب أوكرانيا والأوكرانيين، بل حتى على حساب السلام في أوكرانيا الذي لم يتوقف عن الدعوة إليه.